ما فتأت العدالة حلماً وأملاً يراود البشرية منذ بدء الخليقة فما زالت هي ضالتها وغايتها المنشودة، لذا أفنى الفلاسفة والمفكرون حياتهم لإيجاد سبل تكريسها بعدما وجدوها سبب استتباب الأمن والسلم في حياتهم. ولعل جهود هؤلاء الفلاسفة والفقهاء لم تكن للاعتراف بالعدالة وإنما لإيجاد الآليات التي تكفل تكريسها. والناظر إلى مراحل نشأة وتطور أنماط المجتمع بدءاً من الأسرة كصورة بدائية ونواة أولية للمجتمع وحتى نشوء الدولة بالصورة الحالية يدرك أن آليات العدالة تطورت بتطور أنماط المجتمع. وحيث كانت الأسرة هي النواة الأولى فعرفت فيها السلطة الأبوية كسلطة تسهر على إعمال العدالة بين أفرادها وهكذا مروراً بالعشيرة ثم القبيلة حتى ظهرت الدولة بمفهومها الحديث. وتطور الفكر القانوني حتى استطاع أن يقف على آليات إنفاذ العدالة وبسطها على ربوع الدولة وتمثلت تلك الآليات من خلال مثلث ذي ثلاث شعب أما الشعبة الأولى فهي شعبة التشريع إذ كان حتماً وضع القواعد القانونية الآمرة والملزمة والمخاطبة لأفراد مجتمع الدولة وسن القوانين في صورة (إفعل ولا تفعل) ورصد العقوبات جزاءاً لخرق تلك القواعد. وأما الشعبة الثانية من شعب آليات العدالة على صعيد الدولة فتمثلت في شعبة القضاء الذي يمثل أمامه أصحاب الحقوق والمظالم والظالمين أو المعتدين ليقتص للمظلوم من الظالم بحيدة وتجرد حتى يرد الحقوق لأهلها فيرتدع كل من تسول له نفسه الاجتراء على الحرمات التي صانتها القوانين ويزجر من انتهكها بجرمه. أما المحور أو الشعبة الثالثة فكانت سلطة التنفيذ التي تكفل إنفاذ ما حكمت به المحاكم وما أمرت لتكون بمثابة عصاً في يد العدالة تضرب على يد الآثمين وتروع من يقدم على المساس بسلامة المجتمع وتحقق هيبة القضاء وحرمة القانون. وبارتسام أضلاع هذا المثلث على ربوع الدولة تحقق أمن المجتمعات واستقرار الدولة وأنظمتها. وقد عاش المجتمع الدولي طويلاً ينعم بذلك حتى لاحت في الأفق الجريمة عابرة الحدود ومتعديه الأنطقة الدولية تلك الجريمة التي لم تهدد أمن مجتمع الدولة فحسب بل نالت من أمن وسلامة المجتمع العالمي بأسره فتجاوزت بمخاطرها حدود الدولة ووقعت الإنسانية بآسرها ضحية لها فكان لزاماً إيجاد آليات أكثر تطوراً تلائم تلك الجريمة الدولية. ولقد أتى على الجماعة الدولية حين من الدهر لم تكن تعرف شيئاً يسمى بالجريمة الدولية حينما لم تكن تتعدى الجريمة حدود الدولة الواحدة وبالتالي فلم يعبأ الفقهاء بالتفكير في إيجاد مدونة عقابية تقوض تلك الجريمة وتستهدفها وتحض على احترام الإنسانية وكرامتها بغض النظر عن الفوارق الدينية أو العرقية أو الطائفية أو الجنسية ولكن ازدياد وتيرة العنف والتناحر والصراع على الصعيد الدولي وسقوط الضحايا تلو الضحايا من الأبرياء تحت رحى الحروب وجرائمها أدى إلى بزوغ فكرة القاعدة الجنائية الدولية في أذهان الفلاسفة والفقهاء بيد أن تباعد الأوطان وعدم سهولة الانتقال بينها واختلاف ألوان وثقافات وديانات ولغات البشر كانت عقبات في سبيل تقنين مدونة عقابية ذات طابع وصبغة دولية. لهذا عاشت البشرية عقوداً سحيقة تحت وطأة الحروب وما يرتكب إبانها من جرائم ومذابح وفظائع حتى أشرقت الأرض بنور الشريعة الإسلامية الغراء فإذا بها تنقل البشرية من غياهب الظلمات إلى النور وتضعها على محك حضاري غير مسبوق على مر العصور فرسخت مبادئ العدالة الدولية وحقوق الإنسان وجرمت كل ما ينال من أمنه وكرامته سواء في السلم أو في الحرب ووضعت حداً فاصلاً بين الاعتداء بغير الحق وبين الحرب المشروعة وسنت القوانين التي تكفل أمن الأبرياء والشيوخ والأطفال والنساء والأسرى أثناء الحرب حتى أنها لم تغفل حماية الأشجار والبيئة في أتون الحروب فجرمت قطعها أو حرقها بغير مبرر ولعل النصوص القرآنية الدالة على ذلك كثيرة ومنها قولها تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [1] ومنها قوله تعالى ]فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) [2] ومنها ما يناهض الحرب غير المشروعة، والبغي بغير حق فقال تعالى (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [3]. لكن الإنسان بجهله وظلمه نبذ أحكامها بعد ذلك فتقهقر متخلفاً عنها بمراحل سحيقة فلم يهتدي الفكر البشري لقاعدة دولية جنائية سوى في نهاية القرن الثامن عشر في أعقاب هزيمة نابليون بونابرت حيث بزغت فكرة الحرب غير المشروعة عندما انعقد مؤتمر فينا سنة 1815. والذي قررت فيه الدول المنتصرة مسئولية نابليون في الحروب التي أث...